التغذية الصحية

امثلة شعبية.. أثرت على مفهوم الصحة عند المصريين

 بقلم د. مجدي راشد
امثلة شعبية

تراثنا الشعبي مليء بامثلة شعبية كثيرة أثرت على وجداننا وشكلت قناعات كثيرة، فهناك امثلة شعبية تتحدث في كل مجالات الحياة، إذ تُمثِّل خلاصة خبرات الأجداد كلٌّ في زمانه؛ فكل فترة زمنية لها قناعات ومعايير مختلفة عن الأخرى، وتنعكس شخصية كل شعب على أمثلته الشعبية، وتغلُب على أمثلتنا الشعبية كمصريين طابع السخرية وخفة الظل، فهناك امثلة شعبية مصرية كثيرة تسخر من أحوالنا وتُضخِّم مشاكلنا وتُبرزها بصورة كوميدية تُسهِّل حفظها واستغلالها في المواقف المختلفة.

هناك امثلة شعبية مصرية عن الرجل القوي وهيئته قبل وبعد الزواج وكيف تُقيِّمه الحماة والزوجة، وكيف تتعامل معه حتى تصل إلى المواصفات القياسية في الامثلة الشعبية، وذلك بغض النظر عن تأثيرها على صحته وهيئته.

تسمح قوانين بعض الدول الأوروبية بما يُسمى (القتل الرحيم)، يخلِّصون المرضى الميؤوس من شفائهم؛ والذين يُعانون من آلام شديدة من حياتهم بأساليب لطيفة لا تسبب لهم ألمًا، وهي بالمناسبة مُكلفة جدًا.

نحن كشعب عاطفي ومتديِّن بطبعه لنا فِكر ووسائل أخرى تُجنبنا الوقوع في هذا الإثم؛ فقتل النفس بغير حق حرام شرعًا، لذلك تمخضت عاداتنا وتقاليدنا وتكفَّلت بهذه المهمة فيما يُطلق عليه خبراء التغذية (القتل الحميم)، ويُطلق على هذه الطريقة من الناحية البوليسية والقانونية (الجريمة الكاملة)، فالقتل هنا يكون مشاعًا (بحُسن نية) بين الأم من ناحية والخالة الطباخة الماهرة، والعمة الحنون، ثم الحماة الصيَّادة الماهرة (قد تكون الخالة أو العمة أو الجارة)، ثم يُفسِح الجميع الطريق أمام الوافد الجديد الغامض على حياة الشاب.. الزوجة.. تلك الإبنة البارَّة المُطيعة للحماة (الصيَّادة) والمُنفِّذة لكل توجيهاتها.. وتنفرد الزوجة بالحالة بقية العمر مع تدخلات وتوصيات أمها وحماتها الهادفة إلى قصقصة طيرها (الحالة)، حتى تشمئز منه غيرها (البت الخطَّافة) بمجرد النظر إلى كرشه المُتدلي وأجنابه المُجنَّحة.

لم يتركنا أجدادنا نتخبط ونبحث دون أن يُدلوا بدلوهم من واقع خبرات سبعة آلاف سنة حضارة؛ فقد نقشوا على جدران وجداننا توجيهات يُطلق عليها تمويهًا (امثلة شعبية)، وقد ترسخت مفاهيم هذه الامثلة الشعبية في اللاوعي فأصبحت التصرفات تلقائية حتى لو لم تكن هذه الأمثلة محفوظة نصًا.

دعونا نتعرف على مواصفات الرجل في تراثنا الشعبي، هو كائن عادي يمشي على الأرض ويجري أحيانًا، يتمتع في شبابه بالقدر الكافي من الحرية والحركة حتى يقع عليه نظر الحماة (الصيَّادة)، وبنظرة الخبيرة المُتفحصة ترى أنه مناسب ولا بأس به لابنتها الجميلة، ورغم أنه يبدو من أول نظرة عصوي الهيئة إلا أنها رأت أن هيكله العظمي (الشاسيه) لا بأس به (ييجي منه)؛ ويتحمل زيادة الوزن لبلوغ المواصفات القياسية للرجل في تراثنا الشعبي.

تدخلت امثلة شعبية كثيرة في تحديد مواصفات الرجل فهو في فلسفة الأم (الحماة) وهي تُقنع ابنتها بالزواج ظل حيطه (ظل راجل ولا ظل حيطة)، وبالمنطق كلما زاد عرض الحائط زاد الظل لذلك تشمل التوصيات زيادة وزن الرجل وعرضه وبالمرَّة يبقى (راجل ملو هدومه)، وقد ترسخت هذه الأمثلة الشعبية في اللاوعي وأصبحت من المُسَلَّمَات التي تؤدَّى تلقائيًا بلا وعي، وبالطبع العروس يجب أن تكون متوافقة مع المقاييس الجاذبة وهي خدودها (إللي ما تتزوج بخدودها يبقوا ينفعوها جدودها)، وتُوصف ب (زي فلقة القمر).

 وبما أن قصقصة الزوج كوسيلة تشويه في حد ذاتها فكرة وحشية (قصقص طيرك لا يلوف على غيرك)، فقد استبدلت بوسيلة تشويه أقل وحشية وهي الأكل مُستغلّة طفاسته ورغباته البلهاء (بيدي لا بيد عمرو)، واستنادًا إلى المثل (مكرَّش يصونك ولا أبو عضل يخونك) ولن تطمع فيه أي واحدة (خطَّافة رجالة) بعد ما حدث له من تشوهات، وتقلق الزوجة من زوجها إذا حاول أن يُمارس الرياضة حتى يُصبح (أبو عضل) بما يحمله من صفات جاذبة للمرأة (الخطَّافة).

الأم في تراثنا وكما ترسخ في اللاوعي عندها تريد أن ترى ابنها (طول بعرض وملو هدومه)، لذلك تتفنن في طرق الطهي والأصناف التي تخدم هذا الهدف السامي، صحيح تغيَّر الزمن وتبدلت طرق الكسب من العمل اليدوي الذي كان يتطلب مجهود جسماني كبير؛ ووسائل الترفيه التي كانت على أرض الواقع مثل لعب الكرة وصيد السمك ومسابقات متعددة فيها حركة، إلى طرق كسب لا تتطلب مجهود سوى بأطراف الأصابع على لوحة المفاتيح؛ وترفيه إلكتروني في عالم موازٍ لا يتطلب أي حركة، إلَّا أن أسلوب التغذية عند الأم ظل كما هو الأكل الشهي الغرقان في السمن، والمخبوزات مثل الفطير المشلتت والحلويات المدعومة بالسكر؛ كل عناصر الطبخ هذه مثَّلت أسلحة مايُسمى (القتل الحميم).

فعلًا (من الحبِّ ما قتل).. القتل الحميم أو القتل بالحب الزائد هو وسيلة غير مقصودة ولكنها فعَّالة على المدى الطويل؛ تستعملها بسلامة نيَّة الأم مع أبنائها والزوجة مع زوجها والحماة مع زوج ابنتها، فالحماة تُلقن ابنتها أن (أقصر الطرق إلى قلب الرجل معدته)، وتزودها قبل عُرْسِها بمخزون السمن والسكر والطحين وتوصِها (إذا كان السمن عندك بالقنطار فلا تقولي عدس ولا بيصار)، وتؤكد عليها (الأكل الدِلِع ما ينبلع)، وعندما تتمكن الزوجة وتفرض هيمنتها يكون الأكل بالأمر المُباشر؛ فتُخرج له في أي وقت من اليوم من الثلاجة طعام الأيام السابقة الذي اكتشفت أنه قد شارف على الفساد، وتضعه أمامه قبل أن ينام وإذا أحست منه أي بوادر مقاومة تُبادره بنبرة ونظرة يعرف عواقبها قائلة (وجع بطنك ولا كب طبيخي)، وتُتبعها بعبارة إيمانية مثل ريَّا وسكينة (محدش بيموت ناقص عمر)، فيأكل وهو صامت.

ويتدخل الضيوف الخبثاء في الأفراح من باب التحفيز الكيدي؛ فيُسرِّبون همساتهم فيما بينهم إلى أصحاب الفرح قائلين (إللي ما نأكله في هناهم نأكله في عزاهم)، فيُبالغون في بسط ما لذَّ وطاب من الأصناف أمامهم لإسكاتهم من باب (أطعم الفم تستحي العين)، وما يدري هؤلاء الخبثاء أنهم بنهمهم يضعون رؤوسهم طواعية تحت مقصلة القتل الحميم و(ينقلب السحر على الساحر).

الغذاء الصحي هو (الذي يُشعرك بالراحة والرضا بعد تناوله في نفس اليوم، وكذلك بعد تجاوزك الستين من العمر)، قد تشعر باللذة المؤقتة بعد وجبة مليئة بالمقليات المصنَّعة بالزيوت النباتية والكثير من ملح الطعام، والمحاشي التي تحتوي على الكثير من الأرز الأبيض والدسم والسمن الصناعي المُهدرج، والحلويات المصنوعة من الدقيق الأبيض والسكر والسمن الصناعي، ولكن ماذا بعد سن الستين؟.

قد يلجأ البعض إلى الاعتدال في الكميات وهذا جيد؛ ولكن نوعية الأكل وكميته الكبيرة من باب الكرم هنا تكمن المشكلة، فكثرة تناول السكر والدقيق الأبيض والملح والسمن الصناعي؛ تؤدي إلى الالتهاب المزمن دون ظهور أعراض مُبكرة ملحوظة في أغلب الأحيان، ويزداد هذه الأيام نتيجة قلة الحركة بسبب تغير طبيعة العمل والضغوط النفسية، وكثرة الجلوس على الأجهزة الإلكترونية، والسمنة المُفرطة نتيجة نمط التغذية الغربي السريع والغذاء التقليدي الغني بمسببات الالتهاب، وعلى المدى الطويل تظهر أمراض مزمنة مثل: السكري من النوع الثاني، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والأمراض الإدراكية مثل الخرف والألزهايمر، والسرطانات وغيرها من الأمراض الخطيرة، ولا يقتصر هذا على كبار السن بل تُصيب الكثير من الشباب نتيجة نمط الحياة الخاطئ.

انتشر في الآونة الأخيرة نوع من سوء التغذية يصيب الأغنياء وليس الفقراء، وهذا بسبب طبيعة أكلهم خاصةً النمط الغربي، أكل الأمهات زمان كان فيه الكثير من منتجات الأرض دون تدخل من البشر في المعالجة والتصنيع، وكان فيه الكثير من الخضروات الطازجة ومضادات الأكسدة الطبيعية ومنتجات الألبان البيتي ومنها السمن البلدي والزبادي، ولم تكن الأغذية المُصنعة والمُغلفة الزاخرة بالألوان ومكسبات الطعم والرائحة القاتلة لأطفالنا ببطء، والمُسببة لفقدان المناعة والكثير من الأمراض.

هل توافقني الرأي بأن هناك امثلة شعبية كثيرة ترسخت في اللاوعي؛ واتبعناها بتلقائية أثرت على طريقة أكلنا ونوعيته وبالتالي صحتنا؟، أم أن نمط حياتنا الحديثة وطبيعة عملنا وانشغال الأم العاملة، ووسائل الترفيه الإلكترونية هي التي أثرت علينا أكثر من الامثلة الشعبية؟، بصفة عامة الامثلة الشعبية هي تراث ثقافي جميل يأخذ صبغة كل شعب ولا يخلو من الحِكم ولا غنى عنها ولو للتسرية عن النفوس وجلب البهجة والمرح أحيانًا كثيرة.

السابق
طريقة عمل الممبار المحشى في البيت بألذ وأشهى طعم
التالي
طريقة عمل عجينه القطايف بكوب دقيق واحد

تعليقان

أضف تعليقا

  1. عمر راشد قال:

    بارك الله فيك وزادك الله حكمه وعلمًا .

    1. admin قال:

      جزاك الله خيرا

التعليقات معطلة.